برْلِين..مشاهدٌ من حضارة "الجرمَان" وديمقراطيَّة "سيّدَتِهم الحديدية"
الأحد 20 أكتوبر 2013 - 07:15
لبِرلين مطَاران، واحدٌ فِي غربها، وآخر فِي شرقها، وفقَ التقسِيمِ الذِي شطرهَا، ذات يومٍ، بسطوة الاديلوجيا. نزلتُ فِي الأخير، ليلاً، والبردُ يلفحُ ضيُوفَ الجرمان، كنتُ أنتظرُ أنْ يُطالبَنِي شرطيٌّ فِي المطَار، بجوازِ سفرِي، ليدقق فِي تأشيرته، لكنْ شيئًا من ذلك، لمْ يكن، ذاكَ ما انتبهتُ إليه وأنا خارج المطار، تذكرتُ حينها، أنَّ مقدمِي من دولة أوربيَّة، رفعَ عنِّي حرجَ، جوازِي، والمراقبة الاعتياديَّة لكنْ من يممَ شطر البلاد، قادمًا من جنوبِ المتوسط.
عرب فِي برلين
مع اقتراب انتخابات "البرلمان" الألمانِي، الذِي يعرفُ بالـ"بوندستاغ"، عنَّ لألمانيا، أنْ تدعُوَ صحفيين من دول عربية، لتبينَ لهمْ محاسنَ نموذجِها الديمقراطِي، وهُم القادمُون من تجارب تتلمس بعمشٍ طريقها نحو ممارسة السياسة.
خيارُ الدعوةِ الألمانيَة وقعَ على صحفيين من مصر وتونس، اللتين أطاحتا برئيسيْهما، ولبنان وفلسطين،، ثم الأردن والمغرب، لتجولَ بهم فِي ردهاتِ مؤسساتها، ويجلسُوا إلى سفرَاء لها، خبرُوا بلاد العرب، وأتقن بعضهم لسانهَا، دون أنْ يمنعَهم ذلك، من الحديث بلغتهم الألمانية، أو الإنجليزية؛ فالألمانُ ذَوُو نزوعٍ شديدٍ إلى التحدث بلغتهم، وعدم استبدالها بأخرى، إلَّا عند الضرورة، لكن العم "فواز"، الأستاذ والأكاديمي الفلسطيني، الذِي درسَ إسماعيل هنية، في جامعة "غزة" الإسلامية، كان يفِي بغرض الترجمة، بعربيَّة لها من الأناقة ما يمنحها ميلادًا جديدًا.
بساحة "أليكْساندر بلاتْزْ"، التابعة لشرق برلِين، سابقًا، وَعلى مقربةٍ من برج العاصمة السامق، نزلَ الصحفيون العرب بفندق، اجتمعُوا على مائدة طعامه أول ليلة من وصولهم. لمْ تكن أزمَاتُ بلدانهم لتغيبَ عنها، وهُم يتناولُون حساءً ألمانيًّا، أعقبهُ طبقٌ من لحمِ البطِّ المحلي.
كانتْ صحفيَّة مصريَّة، تذودُ عن الفرِيق عبد الفتَّاح السِّيسِي، وقدْ ساءَها، موقفُ الخارجيَّة الألمانيَّة من عزل الرئيس الأخوانِي محمد مُرْسِي، "ألمانيَا لا تفهمُ طبيعة الحربِ التِي نخوضهَا على الإرهاب"، تقول الصحفيَّة المحجَّبة. فيردُّ أحدهُمْ بدماثة "ذرُوا المشاكلَ لتلكَ البلاد، فهُنَا متسعٌ آخر، لنسيانِ الجحيم، والاسئناس بنفسٍ ديمقراطيَّة وحضارة".
فِي ضيَافة الدِّيمقراطيَّة الألمانيَّة؛
يكَادُ الألمان يقدِّسُون مواعِيدهم، مرافقتنا، هبَة، كانتْ تستعجلنَا باستمرار، كيْ لا نتأخر على مواعيدنا، بدأْنَا صباحًا، من المتحدثة باسم كتلة الاتحاد الديمقراطِي المسيحِي الحاكم.
المسؤولة لمْ تكن سوَى شابةً فِي مقبل العمر، ولأنَّ وجوه السياسة في البلاد العربيَّة شائخةٌ غالبًا، إلَّا فيمَا ندر، بدا الأمرُ أشبهَ بمفاجأة، فيما كانت الناطقة باسم كتلة، الحزب، محترسةً فِي إجاباتها، رغمَ وثُوقهَا، من محالفة النصر، لسيدة الجرمان الحديديَّة، وهيَ تقولُ مزهوةً "لقدْ وصفَ أحدهُمْ الانتخاباتِ الألمانية، هذه المرة، بالأكثر مللًا، فِي تاريخِ البلاد، بعدما رجحتْ استطلاعاتُ رأيٍ كثيرة، كفة ميركل، بفارقٍ كبير، مع منافسِيها".
رغمَ أنَّ أيلول، لمْ يبرح بعد أواسطه، آنئذٍ، إلَّا أنَّ البرد فِي ألمانيا، كانَ قدْ أعلن الخريف، والمطرُ يعِيد بلطف، غسل شوارع برلين، النظيفة أصلا.
خارج البونستاغ تلوحُ ساحةٌ فسِيحة، وَشوارعٌ منظمة يصعبُ رصدُ ثغرةٍ فِي تهييئها. عابِرونَ فِي عجلةٍ من أمرهم، لكنْ دونما قلقٍ يعكر صفوَ وجوههم، وآخرُون امتطوْا دراجات هوائية، متدثرِين بمعاطف ثقيلة.
ركبنا الحافلة، فراحتْ تسيرُ بنا لنحو ربع ساعة، وسط المدينة، مررنَا بمقر عمل المستشارة، الذِي لا يبعدُ كثيرًا عنْ نهرِ "شبرِيه"، بمحاذاةِ السفارة السويسريَّة، التِي طُلبَ منها فِي أكثر من مرة أن تنتقل إلى مكانٍ ثانٍ لكنها أبتْ إلا أنْ تلازم مكانها "الاستراتيجي" بالعاصمة.
الوجهة الموالية، كانتْ الجمعية العربيَّة الألمانيَّة، بحيِّ برلينيٍّ هادئٍ، حضرتْ إليه شخصيَّاتٌ ثقافية وديبلوماسية ألمانيَّة سبقَ لها، أنْ خبرتْ العالم العربِي، رغم أنَّ حجمَ المآسِي التِي كابدتها ألمانيا بسبب الحروب جعلت التدخل في النزاعات بالنسبة إليها، حيثما وجدتْ، شرًّا ينبغِي اتقاؤهُ.
الألمان حريصُون على الداخل أكثر من إيلائهم اهتمامًا بالخارج، حتى وإنْ كانت ألمانيا، بقوتها الاقتصاديَّة الجبارة، غيرَ حاضرةٍ بثقلٍ فِي الساحة الدوليَّة، إذَا ما قورنتْ بدول، كفرنسا وبريطانيا، وتميلُ أكثر إلى إيثار حلِّ سياسي للأزمات، على النحوِ الذِي حصلَ أيامَ تدارس الناتُو للتدخل عسكريًّا فِي ليبيا من أجل حماية المدنيين، أوْ عندما احتدَّ النقاش حول سبل مُعاقبَةِ نظام الأسد على استخدام الكيماوِي فِي غوطة دمشق.
بعد لقاء الحزب الحاكم، ومسؤُولِي الجمعيَّة الألمانيَّة العربيَّة، والعروج على مطعم فندق رومَا، الفاخر، كان لنا لقاءٌ بوزارة الخارجيَّة الألمانيَّة، التِي لا تزالُ محتفظة بمصاعدهَا الخشبيَّة التقليديَّة، الفرِيدة من نوعها. حيث إنها تشبهُ إلى حدٍّ كبِير توابيت الخشب، تصعد ببطءٍ دون توقف، وبها طبقاتٌ يقفزُ إليها من يهمُّ بالصعود إلى طابقِ فِي الوزارة، التِي اجتمعَ الصحفيون العرب بها، مع مسؤولٍ خاضَ معهم فِي أمور "الربِيع"، عادتْ قضيَّة مصر لتخيمَ ثانيةً على النقاش، لكنَّ مسؤول الخارجيَّة الألمانية كان حازمًا، شأنَ مسؤولٍ آخر، التقيناهُ فِي وقتٍ لاحقٍ "سيدتِي، فلنعتبرْ ما حصل انقلابًا سيئا، أوْ انقلابًا حسنًا، لكنَّ أدبيات العلوم السياسية التِي لنا عهدٌ بها، تقول إنَّ عزل رئيس منتخب، ووضع الدستور على الرف، لا يمكنُ أنْ يدرجَ إلاَّ ضمن الانقلابات العسكريَّة".
الأحزابُ فِي ألمانيا، تقومُ على برامج وتصور، للتدبِير، أكثر مما تقومُ على تزكية وجوه قادرة على نحت مقاعدٍ، بالنظر إلى نمط الاقتراع الذِي يفرضُ كسب 5 بالمائة من أصوات الناخبين، شرطًا لدخُل البوندستاغ، ولذلك، كانَ الوطيسُ حاميًا فيمَا بينها، حزبُ ميركل راهن على خفضِ نسبة البطالة بالملايين، والصمود فِي وجه العاصمة التي ضربتْ بلدان الجوار، والخضرُ حاولُوا أنْ يركبُوا على كارثة فوكوشيما، فيما القراصنة، يحكمهم التوجس من مرصادٍ قضائي لاستخدامِ النت بما لا يراعي الحقوق الفكريَّة، أمَّا الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فكان يعدُ بالحد الأدنَى للأجور، متهمًا "ميركل" بسرقة برنامجه، وتسويقه، بعدما فطنتْ إلى محاسنه.
مدينة الحبِّ والخضرة والمَاء
عابرون كثر لبرلين يخلصُون إلى ما مؤداهُ أنَّ المدينة تتقدم ببونٍ شاسع نظيراتها الأوربيَّة كمدرِيد وبارِيس، عند تأمل النظام الذِي تسيرُ به، حيثُ لمْ نرَ طيلة أسبوع من تواجدنا بالمدينة، مُتسوِّلًا يسأل المرة، على النحو الذِي يحصلُ بشكلٍ مألوف فِي "الشونزِيليزِيه بباريس"، فحتَّى المشاريع العمرانيَّة التِي تجرِي فيها الأشغال، تتمُ إحاطتها بواجهة ترسمُ ما سيكون عليه المبْنَى مستقبلاً، كيْلَا ينزعجُ العابر بفوضى الأشغال، كما أنَّ الأنابيب تمرُّ فوق الشارع لا تحت أرضيَّته، تفاديًا للحفر وتعطيل المارة، الذِين لا يجدُ العاشقون بينهم حرجًا، فِي التوقف وسط، الشارع، ليطبِقُوا الشفاه على بعضهَا، على نحوٍ يفاجئُ القادم من الجنوب، فَتتراءَى لهُ الفعلة جريمة نكراء.
الألمان شعبُ يجلُّ الحبَّ، ويحتفِي به على ضفاف نهرِ شبْرِيه الذِي يشقُّ صدرَ المدينة، حيث إنَّك تجدُ على مقربة منه، عشاقًا، تقدم العمرُ بكثير منهم لكنهم لا زالُوا يراقصُون بعضهم البعض، على عزفٍ هادئ، فيما يشربُ آخرون على نخبِ الخريف الراحل، أنْ تمنعَ برودته، انطلاق رحلات نهريَّة فِي المساء، تأخذُ الزائر فِي جولة يقعُ فيها ناظرهُ على أهمٍّ معالم المدينة بدءً من كاتدرائيَّة برلِين.
المركبُ يقطعُ بكَ نهرًا يشقُّ عليكَ أنْ تجدَ على سطحه كيسًا بلاستِيكيًّا أوْ ورقًا مما يلقِي به الناس، في الدول العربية، مخترقًا خضرة المدينة وانتظامَ مبانِيها، فِي دقة، حتَّى يفضِي بكَ المسيرُ إلى مكانٍ لا تجدُ فيه علَى جانبيك سوى الخضرة، التِي يقفلُ منه الجمع راجعًا، إلى حيث انطلق المركبُ للمرة الأولَى.
شرق وغرب وبوَّابة
فِي مدينةٍ كبرلِين، قسمها، جدار "الحرب الباردة"، إلى شرقيَّة كانَ الملايين منها يفرون إلى غربها، التابع للمعسكر الغربِي، يجدُ المرءُ نفسه، بصددٍ طرح السؤال لأكثر من مرة، "فِي أيِّ برلين نحن الآن"، رغمَ أنَّ الجدار تدَاعَى فِي التاسع من نوفمبر عامَ 1989، ولمْ يعدِ اليوم، سوى دمنًا كتلكَ التِي كانَ الشاعرُ العربِيُّ يبكِي عليها يومًا ويوقفُ بها خليليْه، مع فارقٍ في الحنين، الذِي يلا شدُّ الألمان كما الشاعر، إلى حقبة الانقسام، ولعنة السياسة، التِي دمرتْ البلاد وجرت عليها مآسيَ كثيرة..
أجزاءٌ من الجدار أضحتْ اليوم لواحاتٍ إسمنتيَّة بوسط المدينة، قرب معهدٍ التثقيف السياسي، على مرمَى حجرٍ من المكان الذِي رابطَ فيه آخر الجنُود الأمريكيين، ولا تزالُ فيه حتَّى اليوم بعض السواتر للذكرى، مع رجلين بزيِّ الجند، ينتصبان فِي تحية عسكريَّة، مع السائح بعدَ أنْ يأخُذَا منهُ أورُوهينِ اثنين.
غير بعيدٍ عن المكانِ، تنتصبُ بوابة "براندنبُورغ"، كرمزٍ للوحدة الألمانيَّة، بتمثال كوداريجا فِي رأسها، وهو عبارة عن عربة تجرُّها أربعة خيول، فِي شموخٍ صمدَ لقرنين رغم الحروب والقصف والانقسام، ما بين شرقٍ وغربٍ.
الزَّائرُ يطردُ عنه الكسلَ فِي حاناتِ مجاورة للبوابة، أوْ يبتاعُ في جلسة تداهمها الطيور، صحنًا من "الفرانشْ فرَايزْ" "؛ البطاطسْ المقلية"، قبلَ أنْ يواصلَ جولته نحو النصب التذكَارِي "للهُولُوكستْ" وسطَ العاصمَ برلِين"، فِي ساحة فسيحة بها مئاتُ المجسمات الاسمنتية المحاكية للقبور، أنشئتْ لِـتبقَى وخزًا فِي الضمِير الألمانِي، الذِي لا زَالُ يشعُر بالذنبِ حتَّى اليوم إزَاء اليهُود، بسبب ممارسات هتلر.
زمن برلين الأسبوع الواحد فِي برلين كمثل مبلغٍ زهيدٍ فِي سوقٍ آهل، تحتارُ أيَّة وجهةٍ تولِي شطرها، بين جزيرة المتاحف، وقبة البوندستاغ "الشفافة"، التي تلزمكَ بساعات انتظار، أوْ بمطاعمِ البافاريِّين ورقصاتها الأنيقة.
بيدَ أنّ شحَّ الزمن لا يمنعُ زائرَ البلاد، من الوقوف إجلالاً عند مغادرتها، لمن بنى فِي نصف قرنٍ بشموخ ما هدمته الحرب لعقود، إلى أنْ أمسكت أمر النَّاس سيدة، تحكم لولاية ثالثة، يرجوها الألمان، تتمة ازدهار، لحضارةٍ الفكر والحدِيد والحب.